لوحات عبد الناصر عامر: مركزية المرأة بين الحمولة الرمزية والتخفف الدلالي

محمود أبو هشهش

 

Read in English

لطالما حفلت اللوحة الفلسطينية، وخاصة في حقبة فن المقاومة، بحضور مشحون بالرمزية للمرأة الفلسطينية. ويمكن القول إن أدب المقاومة كان سباقاً في إبراز صورة المرأة، وتداولها بشكل واسع في الحقل الثقافي والدلالي الفلسطيني. فقد كرّس محمود درويش في ديوانه "عاشق من فلسطين" صورة المرأة /الأرض/الحبيبة، في حين رسم غسان كنفاني في رواية "أم سعد" صورة أيقونية للمرأة القوية المناضلة/ المرأة المخيم. 

ولعقود طويلة حازت هاتان الصورتان المؤسستان بتنويعاتهما حضوراً كبيراً في المنجز التشكيلي الفلسطيني، حيث كثيراً ما بدا حضور المرأة إما مقروناً بالأرض/ الوطن، و/أو بفعل المقاومة والثورة، أو مطعماً برموزها ، ما أضفى على ذلك الحضور رمزية بدت عضوية فيه، ويصعب تحريره أو تجريده منها، الأمر الذي أحاط صورة المرأة بتلك الهالة التي تستعير قداستها من قداسة الأرض والوطن والثورة والمقاومة. وقلما قدم الفن في تلك الحقبة المرأة كياناً بشرياً خالصاً ، وإنما غالباً ما جعلها وعاءً لحمل الدلالات وتداولها، مع ضرورة التأكيد على أن مثل تلك التمثيلات كانت أكثر وضوحاً في أعمال الفنانين الرجال منها في أعمال الفنانات.

 وبالطبع يمكن العثور على استثناءات كثيرة في تناولها لصورة المرأة، لكنها ظلت خارج متن فن المقاومة الذي تم تداوله بشكل واسع في حقبة الثورة. وقد ساهمت إنتاجات كثير من الفنانين الشباب، وخصوصا الفنانات خلال العقود الثلاثة الماضية في تحرير المرأة من حمولتها الرمزية، ومن سطوة ذلك التمثيل وثقله الدلالي، وجاءت الكثير من تلك الإنتاجات في سياق تفكيك ونقد الخطاب الفني والجمالي لحقبة المقاومة.

a painting by the artist

عبد الناصر عامر ، بلا عنوان ( ٢٠٢٣) ، (٢٠٢١)

 يصعب قراءة الحضور الطاغي للمرأة في أعمال الفنان عبد الناصر عامر بشكل عام، وفي أعماله المدمرة التي ضمتها منصة "آرت زون فلسطين" على وجه الخصوص، خارج إطار هذا السياق والإرث الفني والدلالي الذي تمت مراكمته عبر عقود طويلة. ويمكن رؤية أن اللوحات تقدم طيفاً متنوعاً من تمثيلات المرأة؛ فعندما نرى حضورها مقرونا بالأرض أو بعض رموزها، نجد ذلك التمثيل يرجعنا إلى تلك الحقبة التي طالما احتفت برموز الموروث الثقافي الفلسطيني وعملت على ترسيخها، ولا سيما الثوب المطرز، وشجرة الزيتون، وغيرهما.

 

وكذلك الأمر حينما يرتبط ظهورها بالثورة أو المقاومة، نرى حضور الجموع، وتأخذ المرأة دلالة الأرض ذاتها التي تحتضن الجموع والأفراس والقدس. فنجد أن مثل هذا التمثيل يستحضر الكثير من المخزون البصري الذي راكمه فن المقاومة، ولا سيما في أعمال فنانين مثل مصطفى الحلاج وسليمان منصور وفتحي غبن وغيرهم. أما حينما تحضر المرأة في سياق مغاير، يمكن أن منزلياً حميماً، أو في السوق، فإننا نلاحظ أن المرأة تحضر مجردة من كل تلك الحمولة الرمزية التي رأيناها تلتصق بها حينما حضرت في سياق مرتبط بالأرض أو الثورة والمقاومة، دون أن يجعلها ذلك موضوعاً للتأمل الرغبوي مثلاً. كما نجد أن الأسلوب التشكيلي للفنان ينحو إلى التقشف، وإلى التركيز على البعد التعبيري الذي يتجسد كثيراً في وضعية الجسد وتقاسيم الوجه وخاصة في حدة نظرات العيون التي تحتاز على مكانة مركزية آسرة في اللوحة.

 ويمكن رؤية ذلك بشكل جلي في لوحة بائعة السمك، وكيف قام الفنان بتعميق تلك النظرة الجانبية للمرأة الجالسة، عن طريق تلك العيون الدائرية التي وضعها للسمكات في الوعاء أمامها. ويمكن رؤية مقاربة مشابهة أخرى في لوحة مختلفة، حيث يظهر فيها شخص يدير وجهه إلى أعلى، وقد برز لسانه حاد الطرف وكأنه مثلث، بمجاورة رأس حصان يبرز لسانه الذي يتخذ ذات الشكل والحدة، وكأن الفنان يريد بذلك تعميق تلك الحالة التعبيرية عبر مجاورتها لكائنات أخرى شاحناً إياها ببعد آخر، فوق طبيعي. ويمكن ملاحظة ذلك الأمر، أيضاً، في تلك اللوحة التي يظهر فيها الثور والسمكة.

 

وفي هذا السياق، يجدر التوقف عند تلك اللوحة التي تظهر فيها إمرأة تداعب قططاً، حيث قدم الفنان المرأة الفلسطينية ذات الثوب مطرز القبة تجلس ويظهر في الخلفية صورة للقدس، لكن السياق الذي يبدو باحة منزل، يقلل من الشحنة الرمزية التي تكتنزها رمزية التطريز أو القدس وقبة الصخرة، وكأن حضور القطط قد سحب الانتباه إلى تلك اللحظة الحميمية، والتي دفعت بالمرأة إلى إسدال جفونها وإقفال عيونها، وبذلك يضفي الفنان على اللوحة عنصر كبيراً من الاسترخاء ساحباً الطاقة الرمزية الكامنة في الخلفية، أو الثوب أو في المرأة التي تلبسه، ما جعل الفضاء المنزلي الخاص يفرض حضوره الحميمي والإنساني، وتأويله الخاص على المفردات/الإشارات التي لطالما اتخذت في سياقات أخرى مكانة الرمز. من المثير للانتباه ملاحظة أن كل الأعمال التي طالها التدمير بفعل حرب الإبادة على غزة ينقسم إنتاجها بين سنتي 2021 و2023.

 

 ونرى في اللوحات حديثة الإنتاج نزوع أكبر لدى الفنان نحو التقشف في التشكيل، على حساب منح مساحة لونية أكبر لتكوينات اللوحة، ولا سيما في خلفيتها، ما يعمل على تعميق مركزية التشكيلات من منظور المتلقي. ولعل ذلك يحمل إرهاصات تحولات فنية في مسيرة الفنان ورؤيته وأسلوبه. ويمكن أن تحمل أعمال الفنان اللاحقة ما يعزز هذا التوقع أو يجافيه، ولكن ما يمكن رصده في مسيرة الفنان عبد الناصر عامر هو ميله الدائم للانشغال الجمالي نازعاً إلى تحرير أعماله من الموضوعات الضاغطة والآنية، في محاولة للبحث عن السكينة الكامنة في الانغماس في العملية الفنية، ما يجعل أعماله تستدعي الكثير من التأمل لانطوائها عن طيف مركب من المشاعر التي يخالط فيها الحب القلق والغموض والانتظار، وهي المشاعر التي يفرضها مكان مثل غزة بكل ما ينطوي عليه من تعقيدات، وما يطرحه من أسئلة إنسانية ووجودية مركبة.

محمود أبو هشهش

كاتب وشاعر مقيم في رام الله

 

نُشِر بتاريخ  ٢٧-١٢-٢٠٢٤