تهاني سكيك : المكان حين يؤنَّث بالأزرق
يباغتنا الحنين لرؤية غزة التي تسكن في قلب امرأة، تحدت ألوانها السواد كله. فكأننا نود التعرف إلى شخصيات ليست غريبة عن تاريخنا المكتظ برموز أصيلة، ونساء تتراقص أثوابهن لتتسع المكان كله. فيصبح ذلك الثوب أحياناً استعارة لمكانة تثبتها بطلة أحيانا مجهولة ومختبئة في غزة ، وأحيانا يصدح صمتها بمعان إنسانية تود مواجهة الاحتلال، والوقوف أمام العالم الذي يتلف بقايا التراث الإنساني في تلك المدينة المحاصرة التي تزدحم بالتاريخ.
في أعمالها الحديثة التي أبيدت وفقدت، وعرضت نسختها على منصة آرت زون فلسطين، يبدو أن تهاني سكيك تؤثث لفعل الاستمرار بالبناء، فهي تبني ملامح النساء بالأزرق الحالم. وربما سأسمي هذا الأزرق لغتها البصرية الحاضرة في جميع الأعمال. ومهما كانت المرأة في اللوحة واضحة المعالم أو غائبة ملامحها، فإن حضورها يضيف على المكان روحاً تحتضنه، وكأنها تمسك أطرافه بوجودها. وهنا نفكر أن نساء غزة الأرامل واليتامى وأمهات الشهداء اللواتي يستمتعن لأسئلة أطفالهن البريئة، وهن يأخذن الحزن إلى نزهات في الحلم. لعله يتبقى شيء من البراءة في ألوان الأرض والهواء. وهذا يكثفه اللون الأزرق كحضور خفي للحلم الذي يفهم الواقع الصعب ويعالجه ويعتني به كأمومة أخرى أساسية، تشبه أمومة السماء للأرض المتعبة.
ومن هنا، يصبح الحديث فقط عن نساء غزة بمشاكل اجتماعية وصعوبات، بشكل ما، موضوعاً لا يشغل فكر الفنانة التي ارتقت بتلك المرأة الأصيلة التي تبني معالم مكانها بقوة في الداخل، وربما هشاشة أحياناً في الإحساس بما حوله، لتعطيها وصفا آخر: إنها تحضن مأساتها، التي هي مأساة الإنسان، لا بل هي تؤنث المكان بفهمها لما يعنيه كل حجر وزاوية في هذه الذاكرة التي يحاول الاحتلال محوها. يتناغم هذا الحضور مع غزة ذاتها، لتبدو غزة هنا تخلق وجودها الآخر في طبقة تصبح مرئية، كلما تأملناها أكثر.
ففي عمل هو من أعمالها الحديثة عام 2023، وهو بلا عنوان كما سائر لوحاتها، يبدو السؤال واضحاً في وجه المرأة التي تلبس فضاء أزرق، وتلهو بالطيور البيضاء. كأنها تسأل: هل يستطيع الفضاء الهادئ في النهاية أن يفهم هذه القسوة؟ يبدو أن الفتاة في اللوحة استطاعت أن تنقذ الحنين المفقود. ولعل تجربة تهاني المميزة في الكويت وعودتها إلى فلسطين، قد جعل تلك العودة بمثابة احتضان أكبر لفضاء الذاكرة الذي أيضا لا يغيب.
تغريد عبد العال
شاعرة وكاتبة فلسطينية تقيم في لبنان
نُشِر بتاريخ ٩-١٢-٢٠٢٤