محمد جحا: مخيلة تواصل انتصارها

محمود أبو هشهش

محمد جحا واحد من أبرز فناني جيله الفلسطينيين، يواصل مسيرته الفنية دون انقطاع منذ أكثر من عقدين، ودون أن يطمئن إلى ما راكمه من​ تجربة وإنجاز، بل يواصل البحث والتجريب، مدفوعاً بالشغف والمثابرة والفضول والصدق الفني لبلورة رؤيته، مستكشفاً خامات متعددة، وموظفاً الكثير منها لشحن أعماله بطبقات متعددة من المعاني، محملاً إياها مفردات ولغة بصرية تشف عن شعرية كامنة.

قدمت رسوماته الأولى والتي ظهرت بقوة في مشروعه الفني "حبل غسيل" فناناً خاصاً بما حملت من دفق فني وروح طفولية ومخيلة خصبة في مواجهة الواقع في غزة بما يتعرض له من عنف احتلالي، وحصار وكل أشكال الهيمنة على البر والبحر والإنسان والمخيلة. حمله فنه ليلتحق بإقامة مدينة الفنون الدولية للفنون في باريس، لتمثل المحطة الأولى من رحلة ثرية تنقل فيها للإقامة في عدة دول أوروبية، من بينها النرويج وإيطاليا، ليستقر في مرسيليا حيث يقيم الآن، وحيث يواصل تأثيث المنفى بصور الحنين للوطن، كما واصل بمخيلته المنتصرة مواجهة قسوة الواقع في غزة.

من الجدير الإشارة في هذا السياق، إلى أن الكثير من أعمال الفنان التي دمرت في حرب الإبادة على غزة، وغدت جزءاً من تظاهرة “دي أن إيه: شيفرة حياة وهوية"، كانت جزءاً من مشروعه "حبل غسيل"، والذي شارك فيه محمد في النسخة الثانية من مسابقة الفنان الشاب للعام ٢٠٠٤ ↖ التي نظمتها مؤسسة عبد المحسن القطان، وضم المئات من الرسومات التي أنجزها على ما تيسير له من قطع كرتون وكانفاس، لينشرها على حبال غسيل، مستحضراً بذلك مشهداً منزلياً أليفاً، بما يحمل من حياة وحيوية ودلالة كونية، دون أن يتجرد من خصوصيته كما تتجلى في مخيم اللاجئين. وقد فاز بهذا المشروع بالجائزة الأولى في المسابقة "جائزة حسن الحوراني" على يد لجنة تحكيم ضمت إيكوي إينفيزور والذي كان يعتبر من أهم القيميين الفنيين في تاريخ الفن المعاصر، إلى جانب الناقدة الفنية والقيمة البريطانية المعروفة ساشا كرادوك، والفنان شريف واكد والفنان حسني رضوان والكاتبة سعاد العامري.

محمد جحا، قصص من غزة، من مشروع "حبل غسيل "، (٢٠٠٥)

ففي مقالها عن المسابقة والأعمال الفنية المشاركة فيها، تناولت ساشا كرادوك في فقرة منه عمل محمد جحا "حبل غسيل" واصفة العمل بأنه يمثل "انخراطاً مطلقاً من جانبه في عملية إنتاج لوحاته ورسوماته، وفي لحظة إنتاجها، الأمر الذي أتاح لعمله أن ينجح. إن روح اللعبة الطفولي والنشاط الدائم يتوازن جيداً مع النتيجة النهائية. لعب الفنان لعبة موفقة في غمار هذا الاقتراح من التدفق المستمر، وملأ حبل الغسيل بالمتخيل. يأتي الرصد الطفولي أيضا عبر إصرار معقد على التوازن بين لغة رمزية وحاجة أعظم للتحدث من خلال القيام بفعل الرسم ذاته. إنه محاولة للرؤية بطريقة بسيطة وساذجة من خلال عيون طفل، وأي اقتراح بالسذاجة ُيلقى به بعيداً عن طريق تلك اللحظة المتكررة والحادة الحساسية من العمل، لإظهار بأنه لا يمكن، ولا على مستوى ما، لأية صورة أن تعمل وحدها بشكل تام."*

 

أما في بيانها التي سوغت فيه استحقاق الفنان محمد جحا الجائزة الأولى في مسابقة الفنان الشاب ٢٠٠٤، كتبت لجنة تحكيم الجائزة: "يمثل عمله " حبل غسيل" حبكة محسوبة في البساطة والمباشرة وفي القوة والرقة. في هذا العمل الذي يضم رسومات تعبيرية ولوحات وأشياء يحوّل جحا موقع عمله إلى ساحة حقيقية للعب، إلى حديقة من البراءة والتجربة. عبر هذا العمل، يسترعي جحا اهتمامنا إلى سؤال البراءة بما فيه من أمل وفساد في زمن المحنة. يدعو "حبل غسيل" المتلقي إلى التأمل في هذه الإشكالية المركزية في السياق الفلسطيني. فمن جهة، يستدعي العمل أفكاراً في الفنتازيا واليوتوبيا، ويعرض الملتقي من جهة أخرى للحذر المتواصل تجاه قابلية هذه اليوتوبيا للتحقق.

إن المجموعة الهائلة للوحات والرسومات ذات المهارة العالية غاية في التدفق، وكأن الفنان كان في سباق مع الزمن ذاته. إن كل إشارة وشكل وبورتريه ليس محض عرض إشاري للتلاعب ما بين العفوية والتحكم، بل هي كذلك أداة مفهومية تقبض على سردية العمل، وتديمها في حاضر يرفض التنازل عن حرية الطفولة المتخيلة."*

 

محمود أبو هشهش

كاتب وشاعر مقيم في رام الله

 

كتالوج "أفنية شاغلة -مسابقة الفنان الشاب للعام ٢٠٠٤" ، مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله ,٢٠٠٦*

 

نُشِر بتاريخ  ١٠-١٢-٢٠٢٤