محمد أبو سل: روح تواقة للتجاوز

محمود أبو هشهش

شارك

 الأعمال التي فقدها الفنان محمد أبو سل في حرب الإبادة على غزة تعود لحقبتين مختلفتين من مسيرته الفنية؛ مبكرة، أنجزها في العام 2004، وأخرى تعود إلى السنوات الثلاث الأخيرة قبيل الحرب. أما الأعمال التي تنتمي للحقبة الأولى، فهي جزء من مشروع "صندوق العجب، والذي شارك فيه محمد في مسابقة الفنان الشاب التي نظمتها مؤسسة  عبد المحسن القطان برام الله في العام  ٢٠٠٤ ↖، وتم عرضه في مدرسة الفرندز للبنين في مدينة البيرة.

كان محمد حينها في مقتبل تجربته الفنية، وبدا متحمساً للاشتباك مع أشكال فنية مختلفة، مثل التصوير الفوتوغرافي والنحت، كما تظهر الجرأة الفنية في استخدامه لخامات متعددة بدت عادية وشائعة، وإن لم يكف سياق المخيم حيث كان يعيش محمد عن مواصلة شحنها بالدلالات، مثل رغيف الخبر، والكوفية، والثوب الفلسطيني، والقضبان الحديدية، والأسلاك الشائكة، والمفاتيح العتيقة، والحبال، والكتب.

 وقد وضع هذه الأعمال النحتية التي شفت، حينها، عن جدة، وعن روح تواقة للتجريب، في حيز واحد مع صور فوتوغرافية مولداً علاقة عضوية بدت جديدة حينها بين الصور والأعمال النحتية. تناولت الناقدة والقيمة الفنية ساشا كرادوك تلك العلاقة حيث كتبت: "أنشأ محمد أبو سل عبر عمله "صندوق العجب" علاقة بارعة بين التصوير والنحت، وباستخدامه عناصر مألوفة من الحياة اليومية ووضعها ضمن أطر مزجت القسوة والإبداع معا، لعب الفنان بالواقعية والتقليد، والرمزية، بأسلوب ربما يبدو الآن أقل شيوعاً أو ألفة."*

محمد أبو سل ، من مشروع "صندوق العجب" (٢٠٠٤)

 يقول محمد عن هذا المشروع الذي يتناول فيه تجربة الحياة في المخيم، وما قدمته له من أدوات ومشاهد: "ما زلت أعيش في الحي الرمادي، ليله هادئ داكن، ونهاره متواضع الألوان. إنه المخيم. كلما مرّ الوقت، أضيقت أطرافه وصغرت نوافذه وأغلقت أبوابه. كثر الناس واقتلع الشجر، وتعقدت الأمور، حتى صار حيّنا الرمادي سجنا أسود". * 

 

أما الأعمال الأخرى، والتي تمثل لوحات، فيظهر أن محمد أنجز أولها في فترة الحجر الصحي زمن الكورونا، ليمتد العمل على إنجاز الأعمال اللاحقة بعد انقضاء الجائحة، حيث تظهر فيها انتباهه الفنان لعالم المنزل الداخلي، حيث أصبحت زهور الصبار المنزلية، وطبق الفواكه الصيفية بطبق العنب الأسود، و صينية الإفطار الفلسطيني، بأطباقه ومكوناته الأساسية، مواضيع لأعماله وتأملاته، وهي أعمال تحمل الأثر الكبير الذي أحدثته كورونا علينا في إعادة صلتنا بالعادي والبسيط، وإعادة تقدير الطبيعة بتجلياتها المختلفة، وإعادة موضعة أنفسنا من العالم الخارجي، بما استوجب ذلك من تغيير لمنظور الرؤية، وإعادة اكتشاف العالم، وإيقاظ وشحذ الكثير من الحواس التي ربما روضتها الحياة بصخبها وأحداثها المتلاحقة.

 

وما بين هاتين الحقبتين، انخرط محمد أبو سل في إنجاز الكثير من المشاريع الفنية الطموحة والتي وظف فيها أشكال فنية متعددة مثل الفيديو والنحت والتركيب متعدد التقنيات والتصوير والفن المفاهيمي، والتي حققت حضوراً كبيراً محلياً وفي الخارج، وظل واقع غزة بما يطرحه من أسئلة وتحديات موضوعاً لتك المشاريع. وإن ظل الرسم انشغالا أساسياً وممتداً عبر مسيرته أبو سل الفنية، لكن ما يميز تلك المسيرة، وجعل حضوره الفني يتجاوز المشهد المحلي، إنتاجه للكثير من المشاريع الفارقة من أهمها "مترو غزة" و"شمبر" و"راحة الآلام"والتي تعبر عن توق الفنان الدائم لتجاوز شروط الواقع وقسوته ومحدوديته، منطلقاً من رؤية فنية حالمة دوماً وساخرة أحياناً.

محمود أبو هشهش

كاتب وشاعر مقيم في رام الله

 

كتالوج "أفنية شاغلة -مسابقة الفنان الشاب للعام ٢٠٠٤" ، مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله ، ٢٠٠٦*

 

نُشِر بتاريخ  ١٣-١٢-٢٠٢٤