فايز الحسني: تأمل الإنحناءات على الطريق
عندما نطالع أعمالاً فنية فلسطينية، سننظر كثيراً في ملامح الوجوه، ربما لنفتش عمّا يشعر به الإنسان في غزة، وكيف يفكر في وجوده المهدد في ساعة الإبادة. ليبدو أن ملامح اللوحة هي ملامح تفاصيل الحياة داخلنا. وهكذا حين تحضر المرأة في الأعمال الفلسطينية، فهي تحيلنا إلى أعمال سابقة أصبحت أيقونات حملت معها معنى الهوية في حضور تلك المرأة التي ترمز للأرض أو لتمسكنا بها.
ولأن الاستعمار الذي يمحو آثار الطبيعة والمكان، يجعل من أساسيات مواجهته ومقاومته، هو استعادة الأرض من المستعمر مجازياً ورمزياً، تماماً كما تحدث إدوارد سعيد عن شعراء ضد الاستعمار كالإيرلندي ييتس، والفلسطيني محمود درويش كان لحضور الأرض ورموزها دلالات على الإبادة والاحتلال.
وفي الفن، أيضاً، لا زالت رموز الأرض على اختلاف أساليبها تحيي فكرة "الوجود". فما يميز أعمال الفنان الفلسطيني فايز الحسني المفقودة مؤخراً في زمن الإبادة، هي انحناءات المرأة وانكسارات الوجود الإنساني. وكأن الفنان يتأمل تلك الهشاشة، ليس كمؤشر للضعف والاستسلام، بل هو حزن يفتح نوافذ للتأمل في معاني هذا الموت وهذا الانكسار وإيجاد جمال ومعنى داخله. فنرى تلك الخطوط التي تحتوي وتنحني في قامات النساء التي إما تفعل ذلك لحماية البيت، أو الأطفال، أو حتى نفسها. فهي في بعض الأعمال تنزاح عن فكرة وجودها الشامخ، أو ربما المنتصر، كما هي في ايقونات الفن الكلاسيكي الفلسطيني، لا لتنفصل عن دورها "المقاوم"، بل كي يطلع الفنان من داخلها ذلك " السرد الهامشي". ففي هذا الاقتراح ما يجعلنا نقرأ وجودها الطبيعي الإنساني المنتمي والمتمسك بالأرض وبكينونتها وبأطفالها وتفاصيل حياتها.
تلك الانحناءات التي يركز عليها الفنان جمالياً ومكانياً، لا تركز فقط على كون الشخصية امرأة فقط، فهذا، أيضاً، ينعكس على زوايا الحيّز المكاني والألوان. وكأن كل واحد فينا أو داخلنا سيحنو على ما تبقى من الجرح ومن فلسطين ومن غزة. لكي تصبح غزة أمّاً، كما وصفت ذلك إحدى الكاتبات الغزّيات.
وما يلفت، أيضاً، هو حضور الأسماك، وهذا، أيضاً، ذكرني بلوحات ماتيس التي حضرت فيها الأسماك، وخصوصا لوحة "إناء السمك الأحمر" التي رسمها أثناء زيارته للمغرب. وفي لوحات الحسني، ما يجعله، أحياناً، يخرج من عالم لوحاته، لتأتي هذه السمكات الصغيرة لتعطي دلالات أخرى لعالم يغرق. وتكشف لنا اللوحة ذلك العمق الخفي، الذي حمله معه كإنسان وفنان من غزة، أراد بريشته إنقاذ الحياة حوله في إعطاء معنى النجاة الحقيقية، وهو رؤية كيف يغرق الجمال داخلنا. فالبحر، طبعاً، لا يفارق حكايتنا الفلسطينية، وهو في لوحات فايز حاضر برمز الأسماك التي ملأت في إحدى اللوحات المشهد، لأنها منمنمات الذاكرة حين تقول للمدينة التي تواجه العالم، هذه " نقوش الوجود التي ستخرج من العمق، وتنطق باسم بحر غزة وشواطئها ومخيماتها".
تسرد لوحات الفنان الذي يؤكد، دائماً، أنه يجد نفسه في لوحاته أن الهوية في الفن الذي يواجه الإبادة تستلزم ذلك الحفر في التراث الكنعاني والعربي، لكي يعكس صورة جرحنا كما يراها كفنان متجذر في مكانه ومدينته ووطنه. ففي أعماله الفنية المدمرة التي نشرت على منصة آرت زون، والتي تمتد ما بين1981حتى 2021، وهي فترة زمنية طويلة ومهمة في رحلة الفنان، يحضر الحزن بكل مراحله الوجدانية والتاريخية ليرافق لوحته متمثلاً ليس فقط باللون البنفسجي أو الأزرق، بل بانكماش الأجساد حول بعضها، لتشكل جسماً واحداً، كما يبدو ذلك، أيضاً، في حضور الملامح الذابلة للأعين.
لا شك أن التاريخ، أيضاً، لعب دوره في تلك الفترة التي سبقت الانتفاضة الأولى، حيث بقيت انطباعات الفنان هي ذاتها بعد الانتفاضة، كما في لوحته "أطفال الحجارة" ١٩٨٨. وحتى اللوحة الأولى المعنونة "رسالة حب" ١٩٨١ هي، أيضاً، تبدو وكأنها انفعالات الفنان الحقيقية حول ثيمات وجودية داخله، فها هو، أيضاً، يرسم الألم بصورة امرأة تحمل على رأسها جثة. فعلا تبدو هذه المرأة مختلفة جداً ما بين لوحات كثيرة رأيناها، فهي هنا رغم ثقل الموت فوق رأسها، لا تبدو منكسرة أبداً، وتطاير شعرها المتموج يوحي كم هي حالمة. فايز حسني لا يرسم تلك الشخصية كونها رمزاً، هو يلتقط ما يفيض من عينيها وقلبها ليرسم معاني كثيرة لكلمات ومشاعر شكلت قاموس فلسطين: الحزن، الألم، العودة، الانتفاضة، وداع الشهيد، السلام المفقود، وغيرها. ومن هنا لا يمكن لحرب الإبادة أن تنهي هذه المعاني التي استطاع هذا الفنان القدير أن يَعبُر بريشته إليها.
ومن الملفت أيضاً، في أعماله التي تلت اتفاق أوسلو عام 1993، والذي كان محطة فلسطينية محبطة لآمال الثورة، أن الفنان بدا في لوحته وكأنه يستكمل ثورته الخاصة القادمة من إيمان مطلق بالمشروع الفني الفلسطيني الذي يكثف فكرة المقاومة بأساليب جديدة تحفظ إرث الأسلاف الذين بدأوا رحلة صعبة لترسيخ الرموز الثورية، وفي الوقت نفسه، بقيت لوحته تتطلع برؤيتها نحو مستقبل معاكس للسلام الموهوم. ويتجلى ذلك بوضوح في عمله "السلام المفقود" عام 2000، وهي تعكس طريقاً أفقياً يواجه الطريق العمودي، الذي يبدو وكأنه يفصل القمر أو الشمس إلى قسمين، ليجعلنا نتساءل هل هذان الطريقان هما ما خاضته التجربة الثورية الفلسطينية، وربما انقسمت شمسنا إلى وهم وحقيقة مجدداً، فأدركت لوحات الفنان المفقودة في حرب الإبادة كم كانت أسئلته ناضجة آنذاك.
تلخص أعمال الفنان فايز الحسني المفقودة، والممتدة إلى زمننا هذا، سيرته الخاصة لهذه الرحلة. فهكذا نراه، أيضاً، يعود في لوحاته التي أنجزها في العام 2021، إلى أصل الحكاية التي تتابع جذورها الامتداد حتى هذا الجيل من الأبطال، فتأتي لوحة "من الأسلاف إلى الجيل الجديد" وهي تصور طفلاً على أكتاف جدته. حضور الجدة مهم جداً هنا، وهو انزياح، أيضاً، عن تصوير المرأة كشابة دائماً. فهنا حضرت الجدة كمرادف للماضي (الحنون) أو الذاكرة التي لا بد وأنها الكتاب الذي يحتضن الأطفال الجدد، والطفل هنا، طبعاً، متنقل، وكأنه في نزهة على ظهر جدته التي أسميها هنا الذاكرة، التي لا يمكن أن ينفصل عنها، رغم ما يراه أثناء سفره.
ورغم الحزن، لكن في اللوحة الأخيرة "العرس الفلسطيني" (2021) نجد، أيضاً، في عنوانها وألوانها ألقاً وفرحاً مختلفاً أيضا، فهي اللوحة الغائبة، الآن، فنياً وواقعياً. وكم نحلم مع الفنان أن نجد نسختها على الأرض كلوحة وكواقع اسمه فلسطين.
تغريد عبد العال
شاعرة وكاتبة فلسطينية تقيم في لبنان
نُشِر بتاريخ ٨-١-٢٠٢٥