محمد المدهون : الملامح التي مُحيت والفصول التي نجت
مثلما يمكن لنا أن نرى في الانتباه المبكر والجلي الذي حملته الأعمال المدمرة للفنان محمد المدهون للمكان، والاحتفاء بملامحه وهويته وتاريخه وأناسه، استحضاراً لما يكتنزه ذلك المكان من قوة وفرادة وما يثيره من اعتزاز، يمكننا، كذلك، أن نرى الآن، وبالمقدار ذاته، أن ذلك الانتباه كان مسلطاً على كل ما بدا هشاً ومهدداً، وقابلاً للمحو أو الإبادة، ولا سيما في سياق مثل غزة المحاصرة، والمصوبة عليها عين المستعمر، وسلاحه، ورغبته الدائمة باختفائها، أو حلمه بأن يصحو ليجد البحر قد ابتلعها. كأن حدساً ما غامضاً في أعماق الفنان طالماً دفعه لتأمل الأرض، وما عليها من تلال وأشجار وصبّار ووجوه وأسماء وما يتواتر عليها من فصول، وما يبوح المكان به، أو يكتنزه من طبقات في أعماقه.
أمسك محمد في أعمال كثيرة على ملامح عميقة ومنسية لغزة كلما انجلى ترابها عن قطع جرار فخارية، أو عن جدار روماني، أو بقايا آثار حضارات غابرة. وقد شفت الأسماء التي اختارها لكثير من أعماله ومعارضه عن تلك الروح المتشبثة بالذاكرة والتاريخ مثل " القوة وتحدي الزمن" و " ملامح تحدٍ" و "بقايا"، و"ولادة جديدة" و"بئر الذاكرة" و"ملامح الذاكرة" إلخ. كما يبدو أن انشغاله ذلك قد أخذ يتبلور منطلقاً من اهتمامه بذاكرة المكان، بما ينطوي عليه رمله وترابه وماؤه من شذرات التاريخ وإشاراته، ليمتد و يمسك على هوية المشهد الطبيعي بتلاله وأشجاره وصباره وأعشابه ومائه. لتبادرنا أعمال كثيرة له بأسماء أماكن لطالما اقتصرت معرفتها على سياقها المحلي فقط، قبل أن تجعلها حرب الإبادة والتكرار اليومي للقتل والتدمير والألم أليفة ومكرورة حد الملل، لكل من يتابع عبر العالم مجريات الحرب وتوالد مآسيها في غزة. وما أدل على ذلك من عناوين وضعها للوحاته مثل: "المواصي" أو "العزبة" أو "أجواء بيت حانون"، و "تل العطاطرة". فقد مسحت حرب الإبادة كل تلك الأماكن والملامح، ودفنتها تحت أكوام من الدمار الرمادي، أو حولتها الآف الخيام الرثة إلى مخيمات نزوح يبدو فيها الوجود الإنساني في أكثر حالاته هشاشه وبؤساً وعرضة لكل أشكال القسوة والعنف، وكأنها غدت مسارح للمعاناة الإنسانية اليومية غير المسبوقة، وكذلك للتحدي والبطولة والصمود، مثلما أمست شواهد على الرعب الكامن في انفلات همجية الاحتلال والقوى الاستعمارية، وعلى عجز العالم عن لجم ذلك الانفلات، أو حتى تخفيف المعاناة الإنسانية الناجمة عنه.
تهيمن الذاكرة على أعمال المدهون، ليس بوصفها فعلاً فردياً في مجابهة النسيان، بل بكونها إرثا جمعياً وإنسانياً مثيراً للفخر والاعتزاز ومهددا بالمحو والإبادة في آن معاً. لذا قبضت أعماله على صورة لقصر الباشا في حي الدرج والذي يعود للعصر المملوكي، مثلما قبضت على بقايا جدار روماني صمد الفي سنة أمام سطوة الزمن وعثراته الكثيرة والمتلاحقة في غزة، كما أمسكت لوحاته على الهشاشة والقوة الكامنة في شقوق جرة فخار أثرية. لكن محمد تعدى ذلك ليرسم وجوه من حوله أطفالا وشباباً وعجائز، بما تحمل من تعابير وإشارات تعمق بدورها انشغاله في تسجيل هوية مكانه، وتأثيث ذاكرته بكل ما من شأنه أن يرسم ملامحه بثرائها وتعدديتها.
في واحدة من أعماله "شتاء غزة" يصور محمد المدهون ذلك الفصل كما عرفته غزة، قبل أن تحوله حرب الإبادة والخيمة إلى ما يشبه النقمة أو اللعنة بمطره وصقيعه على سكان الخيام في مخيمات النزوح. لقد أبادت الحرب المكان بملامحه الأليفة وبيوته وأشجاره ووجوه أناسه وأشيائه الأليفة، مثلما أبادت أعمال المدهون الفنية التي حاولت القبض على كل ذلك، وبين حضور الأسماء التي بقيت والمسميات التي غابت، تظل هذه الصور، بصفتها شاهداً يجمع الدال والمدلول معا، مساحة لتوليد اللغة القادرة على إعادة إنتاج الحياة والمكان غير القابلين للمحو أوالإبادة.
محمود أبو هشهش
كاتب وشاعر مقيم في رام الله
نُشِر بتاريخ ١١-١-٢٠٢٥